
بقلم: الصحافي فؤاد السعدي

من يراقب منشورات مجموعة “جبروت” على تليغرام خلال الأيام الأخيرة، يدرك أننا لا نتعامل مع صفحة تسريبات تقليدية أو قناة نضالية عشوائية، بل أمام كيان رقمي يتحرك بإيقاع محسوب وبقدر هائل من الانضباط، وينفذ أجندة محكمة يتم إدارتها بدقة شديدة، تكشفها عدة عناصر، بدءا من لهجة الخطاب، واختيار التوقيت، ثم نوعية الأهداف.
ما بدأ بتسريب وثائق تمس ممتلكات متعلقة بوزير العدل عبد اللطيف وهبي، تطور بسرعة إلى عملية ضغط متصاعدة، أو معركة متعددة الطبقات، تتجاوز مجرد فضح حالة محتملة من التهرب الضريبي، لتصل إلى حدود التصفية السياسية الناعمة، والمنسقة، والمرتكزة على عناصر التحكم في الرأي العام، دون اللجوء إلى أدوات المحاسبة التقليدية التي، رغم شرعيتها، تبقى محفوفة بالمخاطر، خصوصا في حالة شخصيات من الوزن الثقيل.
اللافت أن “جبروت” لا تنشر كل ما لديها دفعة واحدة، بل تعتمد على ما يمكن وصفه بـ”التنقيط المنهجي”، أو ما يسمى بأسلوب الجرعات المسمومة؛ بمعنى أنها تنشر معلومة دقيقة بشكل تدريجي لتجس النبض، وتثير الرأي العام، وتنتظر الردود، ثم تقوم بالتصعيد أو تحتفظ ببعض أوراقها، مع التلويح الدائم بامتلاك ملفات حساسة جدا من شأنها الإطاحة برؤوس من داخل “الدائرة 0″، كما أسمتها في إحدى تدويناتها.
كل هذا، لتهز ثقة المستهدف وتضعه في حالة استنزاف، بعد تهديده بلغة واضحة بعبارة: “قد أعذر من أنذر”، وهي عبارة لا تصدر عن جهة مرتجلة، بل عن طرف يدرك تماما أثر كلماته، ويملك أوراقا تجعله في موقع تفاوضي قوي، حتى وإن لم يظهر من يمثل وجهه العلني.
وحتى وهبي نفسه أقر، ضمنيا، بصحة الوثائق المنشورة، لكنه تفادى تقديم توضيحات كافية عن مصادر تمويل صفقة العقار موضوع الجدل. وحتى رده، الذي بدا محتشما، لم يغلق الباب، بل فتحه على مصراعيه أمام تساؤلات جديدة، وأعطى “جبروت” ذريعة لاستكمال الضغط بخطاب أكثر حدة. بدليل تدوينتهم الأخيرة بخصوص لقائه مع موقع هسبريس، التي تكشف نوايا أكثر عمقا.
فاللغة التي صيغ بها التهديد، المغلف بالثقة والوعيد، تقول إن أي محاولة من الوزير لتقليل شأن الوثائق أو الإساءة للجهة المسربة ستقابل بنشر ما هو أخطر. وهذا لا يوحي فقط بامتلاك مزيد من الوثائق، بل بوجود هندسة إعلامية موازية، تسعى لإبقاء الخصم تحت الضغط، وإرهاقه نفسيا وإعلاميا حتى يسقط دون حاجة إلى مواجهة مباشرة.
وهنا قد نطرح سؤالا مشروعا وهو لماذا لا تنشر “جبروت” كل ما لديها دفعة واحدة؟ الجواب الأرجح أن الهدف ليس فقط كشف الفساد، بل تسعى، على ما يبدو، لفرض منطق جديد في إدارة الصراع السياسي، من خلال إخضاع المستهدف والضغط عليه عبر التسريبات التدريجية، وبالتالي إرباكه، وإضعاف ثقته، بإفراغ رصيده الأخلاقي، وحشره في زاوية التبرير المتواصل، إلى أن ينهار تحت وطأة الشكوك والضغط الشعبي، وتنتظر من المؤسسات الرسمية أن تتفاعل لاحقا بما يضمن التوازن دون خسائر مؤسساتية مباشرة. ولماذا هذا الأسلوب؟ ببساطة لتفادي اللجوء إلى القضاء، لأن هذا الطريق محفوف بالمخاطر.
فمقاضاة وزير من العيار الثقيل تعني، تلقائيًا، فتح أبواب قد تجر معها أسماء أخرى لم يحن أوان الزج بها، أو بعضها قد لا يكون في الحسبان. وعليه، فالتصفية الإعلامية تظل الخيار الأرخص، والأسرع، والأكثر أمنا؛ أو لنقل بأنها معركة “التعرية الرمزية” قبل أن تكون محاكمة قانونية.
وبالتالي، فتوقيت التسريب، كما يبدو، لا يحدده المزاج النضالي، بل مصلحة خفية تفكر بهدوء وتخطط لنهاية مدروسة. وهو ما يعزز الاعتقاد بوجود جهة نافذة، أو على الأقل جهة قريبة من مراكز النفوذ، تقف وراء “جبروت” أو تتقاطع مصالحها معها.
هذا التحليل يزداد وجاهة إذا ما وضعنا الأمر في سياق أوسع والمتمثل في كون المغرب يعيش حاليا مرحلة دقيقة تتطلب صورة متماسكة في الخارج، في ظل رهان استضافة كأس العالم، والتغيرات الدبلوماسية المتسارعة، وانتظارات الاستثمار الدولي.
وفي هذا الإطار، لا تملك المؤسسات رفاهية التصدع الداخلي أمام الرأي العام العالمي، كما لا يمكنها في الآن نفسه الدفاع العلني عن رموز تحاصرهم التسريبات. لذلك، تتحول “جبروت”، سواء بمبادرة ذاتية أو بتكليف ضمني، إلى قناة لتفريغ الضغط غير الرسمي، تسقط الأسماء الثقيلة دون أن تربك النظام، وتعيد هندسة المشهد دون المساس بقواعده العميقة.
طريقة اشتغال “جبروت” تذكرنا بأسلوب “الإنهاك المرحلي” بمعنى، لا يتم إسقاط الهدف دفعة واحدة، بل يدفع تدريجيا إلى دائرة اللاجدوى. وبالتالي كل ظهور إعلامي له مفعول عكسي، وكل توضيح يتحول إلى مادة تفكك وتعاد صياغتها ضده، وفي الخلف، تظل المجموعة تمسك بالورقة الأكبر، تلوح بها كلما دعت الحاجة. وما لم ينشر بعد، قد يكون جزءا من خطة طويلة النفس، تؤجل أوراقها الأثقل إلى اللحظة السياسية المناسبة.
وهكذا، تتحول التسريبات إلى شكل من “الإعدام الإعلامي”، وتتحول الصفحات الافتراضية إلى أدوات نفوذ موازية. لا يقال كل شيء دفعة واحدة، بل يسرب بحذر، وبتدرج، وبحساب دقيق للأثر، وكأننا أمام عملية جراحية معقدة يفترض ألا تؤدي إلى نزيف داخلي غير قابل للسيطرة.
لكن يبقى السؤال الأهم هو، هل كل ما يجري خدمة للشفافية؟ أم أن الشفافية هنا مجرد غطاء لأجندة أعقد؟ وهل ما تفعله “جبروت” خدمة للحقيقة؟ أم مجرد توظيف للحقيقة لخدمة خطة أكبر؟
الأرجح أننا أمام حرب داخل الدولة نفسها، طرفها الخفي يفضل أن يلعب في الظل، ويمسك بالخيوط عبر واجهات رقمية مثل “جبروت”، تحقن الرأي العام كل يوم بجرعة من الصدمة، وتحافظ على خط الرجعة إن اقتضى التوازن ذلك.
“جبروت” على الأرحج ليست صوتا عاديا في معركة نزاهة بل خطاب مركب، يوزع الرسائل بذكاء، يختار توقيت النشر بدقة، ويوجه الإنذارات كأنها رسائل مشفرة.
ومع ذلك، يظل الرهان الحقيقي في مكان آخر هو ما إن كانت المؤسسات ستظل في موقع المتفرج؟ وهل تكتفي الدولة بالفرجة على معاركها وهي تدار عبر تليغرام؟ أم أن لحظة الحسم قادمة، حين يطلب من الجميع التزام الصمت لأن أحدهم قرر أن “التطهير الإعلامي” بلغ مداه؟ ويبقى العنوان الأصدق لكل ما يجري الآن هو، حين تصمت الدولة.. وتتكلم “جبروت”.