
بقلم: الصحافي فؤاد السعدي

لم تعد لغة السياسة تهمّ حزب “التجمع الوطني للأحرار”، ولم تعد برامجه تعبّر عن رؤية أو مشروع مجتمعي. فالحزب الذي قُدّم يومًا ما كبديلٍ حداثي، لم يصمد كثيرًا أمام إغراءات المال والنفوذ. و لم يبق في جُعبته مع مرور الوقت غير أدوات تدبير الريع السياسي، وتوزيع الامتيازات على الأقربين، وتطويع الدولة ومؤسساتها لخدمة شبكته الزبونية التي تضخّمت حدّ الانفجار.
في الداخلة، وخلال لقاء حزبي يفترض أنه موجّه للتواصل مع المواطنين، كشفت كاتبة الدولة في الصيد البحري، زكية الدريوش، وبكل أريحية، عن استفادة زميل لها في الحزب من دعم مالي بلغ 11 مليون درهم، من برنامج “أليوتيس”، ليس بصفته مستثمرًا مؤهلاً، ولا فاعلًا اقتصاديًا يحمل مشروعا تنافسيا، بل بصفته “ولد الدار”، وبامتياز الانتماء الحزبي. وبالتالي لم تجد كاتبة الدولة حرجًا في التصريح بذلك، بل فعلته وهي تبتسم، أمام عدسات الكاميرات، وكأنها تُخبرنا أن هذا هو الطبيعي في المغرب الجديد.
الدريوش لم تُحرج حزب أخنوش، بل فضحته دون أن تخرق سلوكه، ومثّلته أحسن تمثيل. لقد اختصرت بكلمات بسيطة وصادمة كيف يفكر هذا الحزب، وكيف يوزّع الغنائم، وكيف يُسخّر البرامج العمومية لخدمة الأصدقاء والحلفاء. فتصريح كاتبة الدولة لم يكن تصريحًا عابرًا، بل وثيقة إدانة أخلاقية وسياسية لحزب صار يعتبر المال العام حقًا مكتسبًا لمن التحق بالركب، وصدَق الوعد، وساهم في تسويق “البرنامج الحكومي” بالوجه البشوش والصوت المرتفع.
لكن الفضيحة لا تكمن فقط في التصريح العلني، بل في ما يكشفه هذا التصريح من عمق الأزمة ويضعنا أمام مشهد يتكرّس فيه منطق خطير، حيث تُحوَّل المشاريع التي يُفترض أنها تنموية إلى أدوات لتغذية الولاءات الحزبية، وتُستعمل كقنوات لتوزيع الريع السياسي، في وقت تُفرغ فيه المؤسسات من استقلاليتها ويُقبر الحياد الإداري لصالح حزبٍ واحدٍ بات يحتكر مفاتيح السلطة وموارد المال العام ومنافذ القرار
وما زاد الطين بلّة، هو تصريح الوزير “مهبول أنا”، حين خرج ليخبرنا أن الحكومة تهتم بالمواطن “من المهد إلى اللحد”، عبارة لو قيلت في ظروف أخرى، ربما لمرّت مرور الكرام، لكنها جاءت في سياق اجتماعي يغلي حيث الأسعار ملتهبة، والبطالة متفشية، والمنظومة الصحية منهارة، والتعليم هش، والفوارق الطبقية مخيفة. لذلك، لم تُقابل تلك العبارة إلا بالسخرية والتهكم، ليس لأن الناس لا يريدون حكومة تهتم بهم وبشؤونهم، بل لأن الواقع يُكذّب كل حرفٍ فيها.
“مهبول انا” لم يكن يستعرض منجزًا حكوميًا، بل كان يعزف على نغمة الإنكار، ويقدّم نموذجًا آخر من الغطرسة السياسية. حكومة “تهتم” بالمواطن من المهد إلى اللحد؟ أي مهد هذا؟ هل هو المهد الذي يولد فيه أطفال المغرب في مستشفيات بدون أطباء ولا رعاية صحية لائقة؟ أم هو اللحد الذي يدفنون فيه بعد رحلة شقاء، بلا تأمين صحي، بلا تغطية، وبلا عدالة اجتماعية، وبلا كرامة؟ إنها جملة تُخفي قسوة المنطق الحاكم الذي يقول، نحن هنا لنُدير البلاد كما ندير شركاتنا، والمواطن فيها مجرد زبون، ومؤسسات الدولة مجرد مقاولات فرعية، والبرامج العمومية مجرد استثمارات لحفظ التوازن الانتخابي لا غير.
ما كشفته الداخلة ليس مجرد زلة لسان، ولا تصريح غير محسوب، بل هو نافذة صغيرة على منظومة كبيرة، تعمل بمنطق الغنيمة، وترى في الدولة مصلحةً شخصية، لا مشروعا وطنيا. والأدهى أن الحزب لا يخجل من ذلك، بل يفاخر به من خلال تبرير الريع بالتمويل الدولي، ويُشرعن الزبونية بالدعم الأوروبي، ويغسل تضارب المصالح بـ”بنك إسلامي”، وكل شيء عنده له تبرير جاهز.
إننا اليوم أمام مشهد سياسي مشوّه وموبوء، لا صوت فيه للبرامج، ولا مكان فيه للمبادئ، ولا احترام فيه لعقول الناس. فحزب “الأحرار” لم يعد حزبًا، بل صار آلة اقتصادية-سياسية ضخمة، تلتهم كل ما حولها من ميزانيات، ومناصب، ومشاريع، وفرص. وهو في كل مرة يراهن على صمت الناس، وعلى فقدانهم للأمل. لكن مع كل هذا عليه أن يتذكّر جيدا، إن المواطن الذي سخر من جملة “من المهد إلى اللحد”، هو نفسه الذي سيُسقطكم من عروشكم الانتخابية وبذيقكم من نفس الكأس الذي أذاق به غيركم وصناديق الإقتراع هي الفيصل.