الدكتور عادل بنحمزة
لا يزال حكم محكمة العدل الأوروبية الصادر في 4 تشرين الأول (أكتوبر) بخصوص الاتفاقية الفلاحية واتفاقية الصيد البحري، وكونها لا يمكن أن تسري على الأقاليم الجنوبية للمملكة، يثير ردود فعل متباينة وقراءات مختلفة.
المغرب على لسان وزير خارجيته ناصر بوريطة اعتبر أنه غير معني بذلك الحكم لأنه ليس طرفاً في الدعوى أصلاً، وأن الأمر يهم الاتحاد الأوروبي وهو من يتوجب عليه صياغة جواب. في الجانب الأوروبي سارع كل من أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية وجوزيب بوريل الممثل السامي للاتحاد الأوروبي إلى إصدار إعلان مشترك جددا فيه تأكيد التزام الاتحاد الأوروبي بالحفاظ على العلاقات الوثيقة مع المغرب وتعزيزها بشكل أكبر في المجالات كافة، بل شدد الإعلان على نية الاتحاد الأوروبي، بالتعاون الوثيق مع المغرب، على تعزيز العلاقات الثنائية في إطار شراكتهما، استناداً إلى مبدأ “العقود يجب أن تحترم (pacta sunt servanda)”. هذا الموقف تعزز أيضاً بقرار البرلمان الأوروبي الذي رفض محاولات مؤيدين للبوليساريو من بين أعضائه وضع مناقشة قرارات محكمة العدل الأوروبية المتعلقة باتفاقيتي المغرب والاتحاد الأوروبي حول الصيد البحري والفلاحة ضمن جدول الأعمال. بالإضافة إلى مواقف المؤسسات الأوروبية، سجلت كبريات العواصم الأوربية نظير باريس، مدريد وبرلين، مواقف واضحة أجمعت على تشبثها بالشراكة مع المغرب.
قرار محكمة العدل الأوروبية كان عبارة عن بيان سياسي بالنظر إلى المعجم الذي استعمل في صياغته، خاصة الحديث عن “الشعب الصحراوي” وتمثيلية هذا الشعب، بل إن المحكمة صادرت حقاً حصرياً لمجلس الأمن الدولي الذي يتولى بحث القضية المفتعلة حول الصحراء المغربية والذي خلص بعد خمسة عقود، إلى أن الحل السياسي المُعبّر عنه بخطة الحكم الذاتي التي اقترحها المغرب منذ 2007 لتجاوز مأزق مسلسل التسوية، هو الحل الواقعي الممكن والجدي لقضية هي من بقايا الحرب الباردة، وبما تشكله من أخطار على الأمن الإقليمي والدولي، هذا ما جعل حكم محكمة العدل الأوروبية مثيراً للاستغراب، خاصة أن المحكمة ذاتها في المرحلة الاستئنافية كانت رفضت اعتبار البوليساريو طرفاً لأنه يفتقد إلى الصفة، وهو ما أسقطته في مرحلة النقض، علماً أن المؤسسات الأوروبية سبق وأن التقت بممثلين عن المنتخبين في الأقاليم الجنوبية الذين يمثلون الغالبية المطلقة من الصحراويين، وهذا الأمر يؤكده التعداد السكاني الذي أجرته الأمم المتحدة عبر “المينورسو” في بداية التسعينيات، كما أن محكمة العدل الأوروبية كان عليها أن تأخذ بالاعتبار، وهي تخوض في توزيع عائدات الاتفاقيات المغربية الأوروبية ومدى استفادة ساكنة الأقاليم الجنوبية للمملكة منها، التقرير الذي نشرته مفوضية الاتحاد الأوروبي سنة 2022 والذي أقر بأن الأقاليم الجنوبية تستفيد من تلك العائدات، وهو ما يدل عليه مستوى التنمية في تلك الأقاليم والذي تفوق بعض مؤشراته ما يتحقق في باقي أقاليم المملكة.
بغض النظر عن سقطات قضاة محكمة العدل الأوروبية القانونية التي جاءت واضحة في القرار الصادر عنهم، فإن هذا القرار من جهة يمثل أزمة بالنسبة للأوروبيين على اعتبار أن تلك الاتفاقيات وخاصة اتفاقية الصيد البحري كانت في صالح الأوروبيين خاصة أساطيل الصيد الإسبانية والبرتغالية، ومن جهة أخرى أنه أظهر تناقض المؤسسات الأوروبية في رؤيتها لعلاقات الشراكة الخارجية، ذلك أن 19 دولة عضواً في الاتحاد الأوروبي تدعم بشكل صريح وعلني مبادرة الحكم الذاتي المغربية باعتبارها الحل الوحيد والواقعي. وهذه الدول من خلال مؤسسات الاتحاد الأوروبي هي من ترافعت من داخل المحكمة على شرعية الاتفاقيات مع المغرب طيلة مسلسل قضائي بدأ منذ عشر سنوات. صحيح أنه في فترات سابقة، وفي إطار الضغط على المغرب، كان هناك توزيع أدوار بين مؤسسات الاتحاد الأوروبي، لكن في المرحلة الحالية وبالنظر إلى التحولات التي عرفتها قضية الصحراء المغربية والتي تميزت بالتفاف دولي واسع حول السردية المغربية وبوضوح وحزم المغرب من خلال ما عبر عنه العاهل المغربي بأن قضية الصحراء والموقف منها هو ما يحدد حجم الشراكات وصدق الصداقات وأنها العين التي يرى بها المغرب العالم، بحيث لم يعد من الممكن توقيع اتفاقيات شراكة لا تشمل الأقاليم الجنوبية للمملكة.
قرار محكمة العدل الأوروبية سيدفع الاتحاد الأوروبي إلى بحث السبل المستعجلة الواضحة للخروج من التناقض بين مواقف غالبية الدول المكونة للاتحاد وبين مواقف الاتحاد، ويبدو أن ردود الفعل الأوربية المنتصرة للشراكة مع المغرب، مقدمة لصياغة موقف أوروبي موحد بخصوص الاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه أو على الأقل الإعلان الصريح بدعم خطة الحكم الذاتي لحل النزاع المفتعل، لذلك يمكن أن يكون حكم محكمة العدل الأوروبية هدية ثمينة للمغرب…
توقيت حكم محكمة العدل الأوروبية جاء في لحظة كان يتم فيها التحضير لمراجعة تلك الاتفاقيات وهو ما يعطي موقفاً أقوى للمغرب في التفاوض، وقد أظهرت الرباط قدرتها على تنويع الشركاء بداية من توقيع اتفاقية للصيد البحري مع روسيا بالإضافة إلى اتفاقيات مقبلة مع الصين والهند والبرازيل وبريطانيا، وهذا ما يشكل ضغطاً كبيراً على الأوروبيين المطلوب منهم أن يخرجوا من ورطة الحكم القضائي، في حين يبقى المغرب حراً في علاقاته التجارية.